لجسد في القصّة القصيرة التونسيّة بين الالتزام والغواية بقلم : محمد عيسى المؤدب


لجسد في القصّة القصيرة التونسيّة
بين الالتزام و الغواية
بقلم : محمّد عيسى المؤدّب

مدخل :
عن القصّة القصيرة التونسيّة : البدايات و الاتّجاهات :
القصة القصيرة في معناها الاصطلاحي الحديث فنّ وافد على الثقافة العربيّة من الغرب و قد ساهمت الصحافة في رسوخ هذا الفن و انتشاره خلال القرن العشرين..
و انطلقت مدوّنة القصّة القصيرة التونسيّة بظهور أوّل قصّة قصيرة تونسيّة كتبها حسن حسني عبد الوهاب باللّغة الفرنسيّة بعنوان : السّهرة الأخيرة في غرناطة في حدود سنة 1905 ثم تلتها محاولات أخرى من قبل صالح السويسي و محمّد مانشو و محمّد الفاضل بن عاشور.
غير أنّ القصّة الفنيّة بمعناها التّقني قد بدأت مع على الدوعاجي لتشهد العديد من التحولات و الاتّجاهات يمكن أن نجملها في الفترات الزمانيّة التالية :
- فترة الثلاثينات :وهي فترة بداية ازدهار القصة التونسيّة من خلال تجارب علي الدوعاجي و محمد البشروش والبشير خريّف و محمود المسعدي ثم محمد العروسي المطوي و البشير بن سلامة و رشاد الحمزاوي و و فرج الشاذلي. و قد توزّعت هذه التّجارب على تياّرين اثنين : التيار الواقعي و يمثله علي الدوعاجي و التيار الرومنطيقي و يمثله محمد البشروش و لقد ارتبط مفهوم القصة القصيرة لدى الرواد بضرورة الاستجابة لمواصفات نمط سردي محكوم بقواعد على غرار خصائص القصة عند الغرب.
- فترة الستّينات : و هي فترة مقترنة بظهور حركة الطليعة و قد برز فيها العديد من الكتاب منهم : عزالدين المدني و محمود التونسي و سمير العيادي و أحمد ممو و رضوان الكوني و محمد رضا الكافي .و قد حرصت هذه الحركة على تطوير بنية القصة الكلاسيكيّة و إنشاء بنى جديدة باعتبار الإبداع الحقيقي هو الذي يترسّخ في مستوى الكليات لذلك كانت الكتابات القصصية لدى الطليعيين منعكفة على إبداع البنية القصصية باعتباره غرضا في حد ذاته و هو ما جعلهم ينشغلون عن التفاصيل.
- فترة التسعينات : من أهم مميّزات هذه الفترة التخلّي النهائي عن الكتابة النمطيّة الكلاسيكيّة و الاختلاف الكلي عن القصّة الطليعيّة من خلال العناية بالتفاصيل بتوظيف تقنيات متنوّعة من أهمّها شعريّة الخطاب و العجائبي و إثراء السياق الحكائي بمواقف المراوغة و المباغتة.
- و من أهمّ كتاب هذه المرحلة :آمال مختار و إبراهيم الدرغوثي و مسعودة أبو بكر و فوزيّة العلوي و الأسعد بن حسين و غيرهم من الجيل الجديد..
و القصّة القصيرة التونسيّة في كل مراحلها مشهد مكاشفة و نقل لملامح الحياة الشّعبيّة و صورتي الريف و المدينة..و تصوير لفئات المغمورين و المنسيين...و نقل لعواطف الإنسان في مختلف حالاتها: الحب و الكراهية – الوفاء و الغدر – التجذّر و اليتم...

الجسد :
يطرح الجسد كموضوع ثقافي في الفكر المعاصر،و قد تسارع الوعي بمناخاته و دلالاته في الأدبيات الحديثة..فكان هناك اتّجاه دائم نحومحاولة فهم الجسد من خلال كشفه كشكل و تعريته كمضمون..
فماذا نعني بالجسد؟
فهل هو الجسد الفرد؟
أم هو الجسد الجامع ، الجسد الإنساني..؟
إنّه ببساطة جسد المرأة و مختلف التمثيلات التّخييلية السرديّة التي يقدّمها الأدب عنه..فيكون الجسد محورا تتمركز حوله العلاقات الخاصّة بالأحوال و الأفعال..
و الجسد موضوعا يكاد يكون مغيّبا و مهمّشا في الدراسات النقديّة التونسيّة و العربيّة التي تتناول الآداب و الفنون..فرغم حضور الجسد و توظيفه بكلّ تجلياته و تلويناته و انفعالاته في الشّعر و الرواية و القصة و الفنّ التشكيلي و السينما فإنّه من النادر أن تخصّص مداخلات لمقاربة هذا الجسد المغيّب و المسكوت عنه لأسباب دينيّة و أخلاقيّة و اجتماعيّة..
وقد ظهرت موجة كبيرة من الشعراء و الروائيين و القصّاصين العرب الذين تبنّوا ما يسمّى الكتابة الجسديّة من آخر الستينات إلى اليوم و نذكر خاصّة في هذا الشأن : رواية الخبز الحافي للكاتب محمّد شكري و هي سيرة محرّمة نشرت باللّغة الفرنسيّة ثم نقلت إلى اللغة العربيّة و لاقت روجا كبيرا و رواية ذاكرة الجسد لاحلام مستغانمي ، أحلام مستغانمي التي تحكي سيرتها الجنسيّة كإمرأة مقموعة في مجتمعها الشرقي الذكوري..و قد لاقت تعاطفا كبيرا من قبل العلمانيين العرب..
فكيف تتراءى صورة الجسد في القصّة القصيرة التونسيّة؟
ارتأينا في دراسة هذا المبحث أن نعاين نماذج من القصص القصيرة في فترتي الستينات و التسعينات و استوقفتنا ثنائيّة الالتزام و الغواية.
الالتزام:
إنّ ما يلفت الانتباه في التجارب القصصية التونسيّة الالتزام بجملة من القيم و الثوابت الاجتماعيّة و يحتضن الريف غالبا هذا المنحى ، الريف الذي تحكمه عادات و تقاليد و قيم أصيلة تنبني على الشرف و العوطف الجيّاشة و هو ما يتجلّى مثلا في قصّة : الصبيّة و الحمامة لصالح الدمس : " تلك الصبيّة الملتحفة جناحي حمامة تأتي عشيّة الآحاد تطلب خطيبها بالهاتف ، و أنا من خلف المصرف ينوح في صدري الحمام ، و أمرّر لها الرقم ، تلك الصبية ذات العينين السوداوين تمرّ إذ يرنّ الهاتف من المصرف إلى الغرفة بيضاء كغيمة صيف ، فيلفحني الهبوب و تذهب الكلمة و يكلّمها ليصنعا عØ! �ّا جميلا ، عاليا ، شاهقا فوق عمود الهاتف بالهاتف ، تلك الصبية تأتي عشيّة الآحاد ، تجدني في المكتب وحيدا ، فتنتصب أمامي ملتحفة بياضها بقدّها الممشوق و رقبتها اللامختومة فتختلط في يدي خواتم البريد، تأتي تطلب بالهاتف ذلك الفارس البعيد ، تؤسس معه عشّا لغد الفرحة ...تلك الصبية البيضاء...تلد الآن في المصحّة طفلنا الثاني..."
فالجسد في هذه القصّة يتراءى حلما عاكسا لفيض الجمال و السعادة مما يبرز إحلال القيم الجميلة و الأصيلة و محورها الوفاء و الإخلاص و الصّدق..
و يتغنّى إبراهيم الدرغوثي في مجموعته القصصيّة : النّخل يموت واقفا و تحديدا في قصّة : شمس فوق كفّ عزيز بجمال المرأة ،ذلك الجمال الملتحم بجمال الصّحراء :
" كانت ذات يوم زينة بنات القرية
من عيونها يترقرق نبع ماء صاف في صحرائنا القاحلة
من جبينها تشرق الشّمس
فوق صدرها النافر ترتع الغزلان
و من شعرها المجنون يغزل الليل شباك الحبّ
كانت مهرة للفارس الجريح
غيمة للحقل العطشان
نسمة في الصيف الملتهب
كانت ربيع الدنيا كلّها "
فهذا المقطع الوصفي ذو المنحى الغنائي يكثّف من التشابيه و الاستعارات حتى تخفت مفاتن الجسد و تتخفّى فتنته في وسط ريفي صارم...
و لا يختلف الكاتب حسونة المصباحي في مجموعته القصصيّة حكاية جنون ابنة عمي هنيّة و تحديدا في قصّة : قصّة حبّ عن هذا الوصف مؤكّدا على الالتزام بخصائص الحبّ العذري و ارتباط الجسد الموصوف بملامحه :
" كانت تلبس ملية سوداء و تضع على رأسها خمارا أحمر، شعرها ينزل على ظهرها سنابل من الحنّاء ، بشرتها بيضاء كنساء المدن و في عينيها يترقرق ألم عميق..."
و يقول أيضا : " يتأمل تلك الأشكال القويّة العذراء التي كانت ترسمها على الجسد ثنايا الثوب الرقيق..."
فهو ينتقي من اللّغة ما يفيد التلميح مؤكّدا على ارتباط الجسد الموصوف بعاطفة الحبّ أكثر من انبهاره بتفاصيل الجسد..
أمّا الكاتب محمّد الماجري في مجموعته أوجاع الذاكرة و تحديدا في قصّته : أنا و المكان فيلتزم بصفاء الحبّ في أجواء لا تخلو من رومنطيقيّة حالمة فليس الجسد عنده إلا بوّابة لمشاعر جيّاشة و إحساس نبيل بالحب :
" الشخوص تعجّ بالمكان و حبيبتي تحضنني بذراعيها التي تحمل مشاعرها الجياشة تجاهي "
و يقول أيضا : " تحت الطاولة شارة حمراء كلون قلبي و قلب حبيبتي..تحدّثني من رموشها بكل اللّقاءات التي جمعتنا "
فهو التوحّد الجميل بين روحين ، توحّد يلغي الحضور الشبقي للجسد و هو ما يصرّح به الكاتب نفسه في نفس القصّة :
" الفتيات يذكّرنني بقول نزار قباني :
لبسنا قشور الحضارة
و الروح جاهلية
فتيات تحملن السجائر و رئتي لا تستطيع و لو أخذ نفس.
رجل يكذب عليها ، ببعض الكلمات التي حفظها من الأفلام و من الشوارع لديهم هواتفهم النقّالة ينظرون إلى الوقت فيها كل ربع ساعة و يتكلّمون..أنا حبيبتي تحتضنني و تنام على كتفي و تقول لي و أقول لها :
نريد أن نبتعد عن هذا المكان ، عن هذه الحياة العفنة "
فهو الرفض القاطع للتقليد الأعمى للآخر و تعميق الصلة بالهويّة و الكيان..
و هو رفض يشي بمرجعيّة ثقافيّة إزاء الجسد قوامه : الجسد بوّابة إلى الروح، إلى الفضيلة و الجمال و الحبّ في أسمى معانيه...
و لا يختلف القصّ النسائي عن القصّ عند الرجل في هذا المبحث و الخاصّ بالالتزام..غير أنّ المرأة تثير قضيّة جدّ هامّة و هي احترام الجسد و ذلك من خلال تعرية المجتمع الذّكوري من جرمه بحقّها و بحقّ جسدها ..فتتعدد صور الرجل المتّهم و المرأة الضحيّة و المستلبة..
و قد طرحت الكاتبة حفيظة قارة بيبان هذه القضيّة بعمق و عنف في قصّتها : قي ظلمة النور :
تقول الكاتبة : " أنظر إلى الحمى في عينيك ، إلى الشّهوة الرعناء في كلّ لمساتك ، إلى الخشونة الصلبة المطوّقة لجسد الدمية الملقى ، أنظر إليك أسدا يرفس حرّا طليقا في الغابات ، تكسر أعضائي و تقطف ثماري، تعصر و تسحق و تدوس و لا تسأل شيئا آخر ، أنظر إليك كمتفرّج وحيد يشاهد شريطا عنيفا قاسيا ...أحسّ البرد يلسع جسدي العاري.."
فالخطاب يعكس احتجاج المرأة على الرّجل بسبب حضور الغريزة و غياب الحب و الإشباع العاطفي و هو حقّ طبيعي من حقوق المرأة و ينفتح هذا الاحتجاج على صورة المرأة في المجتمع الّذكوري المستبّد...يطغى جسد الرّجل و يموت جسد المراة...سجينا...
و الدعوة إلى احترام الجسد تتجلّى أيضا من خلال التغني بجماليّته و تأكيد الجانب الروحي و هو ما يحضر في قصّة : عطر الليلة الأخيرة لفتحية نصري : " يتملاّها و الحنين يخنقه ..ذا شعرها الليليّ الأسود و قدّها الممشوق ..تسربله خصلاتها المترامية و تداعب جدائلها وجهه ليهجره الكرى و يقوده إلى مرافئ عينيها..."
فالكاتبة لا تورد الجسد حسيا مكشوفا و إنا تعبّر عنه بلغة طافحة بالشوق و الحنين حتى يكون لوحة جميلة قريبة من الحلم ...
و لا بدّ من التّأكيد على خصوصيّة القصّ النسائي في علاقته بالجسد باعتبار أنّ المرأة تتواصل مع ذاتها من جهة ومع علاقات جسديّة و نفسيّة و ثقافيّة من جهة ثانية ..هذه العلاقات المشوّهة و المتعكّرة أحيانا بسبب الإكراهات التي مارستها الثقافة الذّكرويّة.
فالجسد في دائرة الالتزام عبّر عن مرجعيات دينية و حضارية و اجتماعيّة محورها الفضيلة و الشرف و الجمال ..وهي تعكس في جانب كبير المجتمع التونسي المتماسك ، المجتمع التي تحضر فيه المرأة في أدوار متعدّدة باعتبارها أمّا و أختا و حبيبة و زوجة.
الغواية :
في الجانب المقابل للالتزام نرى في بعض النماذج القصصيّة التونسيّة أنّ الجسد ارتبط بالغواية بمعنى الإغراء فيفقد عالم القصّ براءته و تتّصف الشّخصيّات بالتناقض و القلق و الضّياع...و ينقل كتّاب القصّة ما يعيشه المجتمع من تحوّل من العلاقات و البنى التقليديّة إلى العلاقات المتفتّحة و المعاصرة.
و تستوقفنا القصّة الومضة ، ذات النفس الشعري لفاطمة بن محمود و هي بعنوان : قلبي هناك...قصّة تنقل التحوّل القلق و المتوتّر من الطفولة بما يعنيه من غياب الإحساس بالجسد و انعدام سلطته إلى مرحلة البلوغ أو المراهقة و ما يرافقها من خوف و قلق و إحساس بالجسد و حضور سلطته.
تقول فاطمة بن محمود :
" لأوّل مرّة
حين تناثرت
قطرات الصبا
على ثوبي الداخلي
أشرقت أمي للصبيّة
و هلّلت..للجسد..
و انفطر قلبي..
لقد فارقت طفولتي
إلى الأبد.."
فالأمّ حسب رؤيتها الاجتماعيّة تسعد لبلوغ ابنتها سنّ الزواج ، أما البنت فتخشى الجسد لأنّها تعرف عمق مسؤوليتها الجسيمة في الحفاظ عليه في عالم من المتغيّرات و التناقضات..
و عبّرت الكاتبة حفيظة القاسمي عن مرحلة اكتشاف المتعة و الجسد في مجموعتها القصصية : من يوميّات فتاة بلهاء ، في قصّة أمّ الهناء بشكل قد يصدم المتلقّي لما في الصورة من حدّة وعنف رغم يقيني أنّ الواقع يحفل بأكثر من ذلك ....
تفرّ البنت من زوج حاضنتها بعد أن فقدت أمّها عند وضعها مباشرة و تتنقّل بين الخرائب فترى ما ترى..تقول الكاتبة : "رأت فتاة صغيرة تتبع طفلا إلى جهتها فتنام على أربع ، ثمّ ترفع ثوبها عن إليتها...تذكّرت كيف كانت تشعر بلذّة غريبة عندما ترى الجديان تتقافز فوق بعضها...إنّها لا تزال تنظر إلى شئ بين فخذي الصبيّ...سألت أخيرا :
- ما هذا؟ !
قهقه الصبيّ:
- ألاتعرفينه !!
- أبدا.
- إذا تعالي....
كالمخدّرة ، استجابت ، و تلذّذت "
و الجسد في قصّة : سكّير في شارع مقفر للكاتب إبراهيم الأسود يفقد جوهره وجماليّته ليستحيل إلى سلعة رخيصة تباع في الشارع :
" البارحة بعت معطفك وحذاءك و أشياء لا أذكرها...فماذا ستبيع غدا لتوفّر ثمن قارورة خمر ،و لتعانق جسدا مترهّلا لإمرأة ما...آه...ليس ثمّة أروع من الخمر و الجنس و الأحلام "...
و ينقل لنا الكاتب محمّد الماجري في مجموعته القصصيّة يوميّات شاعر غريب و تحديدا في قصّته : رجل غريب نفس المعنى :
" مدينة مبعثرة المشاعر ،موصدة الأبواب ، مغلقة النوافذ ، تسمع صرير الأسرّة بعنفوان تعكس غلس الليل البهيم في سراديب من اللهاثات..
عاهرة تمضي وسط الطريق ، خرجت من عمارة فرنسيّة شهباء اللون ، شعرها أسود كثيف ، سيجارة مشتعلة بين شفتيها التي قبّلت كل الصنوف و عضّت من مختلف السنون الملساء و البيضاء ،عفوا حتى الحديديّة المركّبة"...
فالعالم القصصي مشحون بالشّهوة و الرّغبة و الجنس ،عالم تغيب فيه المرأة كيانا..و تحضر جسدا مفتقدا لكل القيم....و هوعالم يوتّر العلاقة بين الإنسان و جسده و تنتهي إلى تشيّؤه و إحساسه بأنّ الجسد هو مجرّد آلة للمتعة و البيع و الشراء...
فهل في وصف الجسد نقل للواقع أم مغالاة بسبب خيبة البطل و حيرته ؟ وهل أنّ صورة المرأة في المجتمع المعاصر هيّ صورة مقترنة باللّهث
وراء رفع الكفاءة الإنتاجية في بورصات الرياضة و الإعلانات و الموضة؟
إنّ الأمر لا يعدو إلا أن يكون عاديّا بحكم أنّ عالم القصّة قد انفتح على عالم المهمّشين و المنسيين و تعمّق في دراسة خصائص العيش في قاع المدينة و من البديهي أن تكون المشاهدات على تلك الصورة...
و تحضر الغواية بشكل آخر ، موازن بين الجسد و العاطفة و لا تختزل الأنوثة في مجرّد جسد حامل للذّة..و تحضر ثنائيات الحجب و الإظهار ، المنع و الإباحة ، الجسد و الروح...
و تستوقفنا في هذا السياق المجموعة القصصيّة نساء لمحمّد رضا الكافي ، هذا الكاتب التونسي الذي أعتبره متقدّما على عصره ، فهو و إن كان ينتمي إلى الطليعيين فإنّه بالإضافة إلى اشتغاله على التّجديد في البناء القصصي فإنّه انشغل أيضا بالتفاصيل فيتشكّل السّرد في كتاباته صورا على شاكلة الصورة السينمائيّة الدقيقة..
ففي قصّة : عائدة ، ذات ليلة عاصفة يصوّر الكاتب مغامرة عاطفيّة بشكل دقيق منتصر لجماليّة الجسد و انفعالاته..
" و أشرق وجهها الجميل بفرح مفاجئ ، و انفتحت شفتاها الحمراوان الرهيفتان لتكشفا عن صفّي أسنان بيضاء ناصعة تكاد تأتلق و تضيء من شدّة النقاوة ، ثمّ سوّت شعرها المنفوش ، جمعته في خصلتين أرختهما على صدرها تخفي بهما نهديها شبه العاريين و شدّت بأصابعها الباردة على فخذي..."
و يجمع الكاتب حسونة المصباحي في قصّته : نجمة العاطفة بالرّغبة في مشهد قصصي لا يخلو من جماليّة و طرافة :
" اقتربت منها حتى مسّ جسدي جسدها و قلت : يا ملائكة السّماء كوني معي ، سأذبح عجلا للوليّ سيدي أحمد بن سعيد إن دخلتها ! ..مددت يدي نحو فخذها..لم تتحرّك...راحت يدي تصعد و تصعد محمومة ملهوفة..."
امّا الجسد في المجموعة القصصيّة للأسعد بن حسين فهو ينأى عن التسلّط و الكبت و القيود ويتحرّر من مفاهيم الفضيحة و الحرام ، يقترن الجسد بالحريّة و الخلق و الإبداع....هيّ تلك التموّجات الساحرة و الانفعالات الحيّة التي تخرج الإنسان من العادة و التكرار..توطّن سحر المرأة و فتنة الحبّ و تجدّد حضور الجسد.. ففي قصّة الأرمونيكا يتذكّر وحيد حبيبته فاطمة بينما كان مع حلم يجول : " فاطمة حبيبته كما عروس بحر خرجت من طيات ألف ليلة و ليلة..و في لمح بصر يصحو لمرافقته و آلته السحريّة ترسم موسيقى مفعمة بالحبّ...بالحياة..بالأمل...."
و لا شكّ انّ الكتابة موقف و هي وجهة نظر تتشكّل انطلاقا من تفاعل الذّات المبدعة مع نفسها و معطيات محيطها و مع غيرها من الذّوات..
لذلك لاحظنا تغايرا و اختلافا في التجارب القصصيّة المدروسة انطلاقا من ثنائيّة الالتزام و الغواية..
فقد تاكّدنا من كون القصّة القصيرة التونسيّة كانت ملتصقة بالمجتمع ، ناقلة لهمومه و تطلّعاته ، متوقّّفة عند نتوءات المتغيّرات..مسائلة الوجه و القفا في كلّ الفضاءات المتاحة...
و كانت صورة الجسد مجسّمة لذلك...فهي تنقل لنا ملامح المجتمع المتماسك المحتكم إلى القيم و الهويّة العربيّة الاسلاميّة من جهة ، كما تنقل لنا ما طرأ على هذا المجتمع من متغيّرات أملته حتميّة المعاصرة و إملاءات العولمة...
و قد استوقفتنا الكتابة السّرديّة النسائيّة الحديثة التي شكّلت بالفعل إحدى تعبيرات المجتمع الحداثي...فكانت صورة الجسد في أغلب الكتابات النسائيّة ناقلة لهمومها و أحلامها..و من هذه القضايا المطروحة سطوة التقاليد و المجتمع المتحجّر و الحرمان العاطفي و القلق النفسي بالإضافة إلى اليوميّ المعبّر عن أحلام المرأة...
و تميّزت الكثير من التّجارب بالمراهنة على التّجريب في الأشكال الفنيّة و استبطان الذات و التلبّس بوضعيّة الراوي و كذلك الحرص على دحض الموجود المستهلك و الكشف عن المخفيّ في الجسد و المجتمع بجرأة صادقة و مميّزة لها نفس نضاليّ واضح....كما عبّرت أيضا عن وضعيّتها في المجتمع الحديث من خلال معاني الحريّة و العدالة و التّشارك مع الرجل... و هو ما يتأّكّد في الكتابات السرديّة المعاصرة و منها على سبيل الذّكر تجارب عروسيّة النالوتي و حفيظة قارة بيبان و آمال مختار و مسعودة أبو بكر و فوزيّة العلوي و فاطمة بن محمود.
خاتمة :
أؤكّد في خاتمة هذه الدراسة أنّ معالجة صورة الجسد في القصّة القصيرة التونسيّة ليست شاملة و نهائيّة بحكم أنّها توسّلت إلى الانتقائيّة في التجارب القصصيّة التونسيّة لدراسة صورة الجسد..
لكنّ الثابت أنّ كتّاب القصّة القصيرة في تونس لم ينخرطوا كليّا في أدب الجسد أو الادب الإيروسي المادّي الذي ينفصل على الروح باعتبار العديد من الموانع الذّاتيّة أوّلا لأنّ الجسد هو شأن خاصّ و ليس شأنا عاما متاحا للجميع بالإضافة إلى الموانع الدينيّة و الحضاريّة و الاجتماعيّة التي تؤكّد على حرمة الجسد..و سريّة العلاقة الروحيّة و الماديّة بين الرجل و المرأة.
و نضيف إلى ذلك أنّ شكل القصّة القصيرة المتميّز بالاقتضاب و الإيجاز لم يمنح الكتاب هامشا كبيرا من الحريّة في إيراد التفاصيل على خلاف الرواية التي تحفل بذلك و تنعم بتجليّات شتى للجسد.
صاحب الجبل 28/04/2010
المصادر :
- النّخل يموت واقفا لإبراهيم الدّرغوثي – دار صامد للنّشر و التّوزيع.
- حكاية جنون ابنة عمي هنيّة و قصص أخرى لحسونة المصباحي – دار الرياح الأربعة للنّشر.
- أوجاع الذّاكرة لمحمّد الماجري – طبع بمطابع سمباكت.
- مدينة اغتيال الأحلام لفتحيّة نصري – دار سحر للنّشر.
- من يوميّات فتاة بلهاء لحفيظة القاسمي – دار سحر للنّشر .
- يوميّات شاعر غريب لمحمّد الماجري - الجمهورية للطباعة و النّشر.
- نساء لمحمّد رضا الكافي – دار النّورس.
- معجزة أخرى للحبّ للأسعد بن حسين – EDICOP
المراجع :
- في نقد القصّة و الرواية بتونس لنور الدين بن بلقاسم – الدار العربيّة للكتاب.
- تأمّلات في السّرد و الأقصوصة لبلهوان الحمدي – مطبعة فنّ الطباعة.
- مجلّة الحياة الثقافيّة – العدد 80 السنة 21 – ديسمبر 1996.
- مجلّة الحياة الثقافيّة – العدد 86 السنة 22 – جوان 1997.
- مجلّة الحياة الثقافيّة – العدد 94 السنة 23 – أفريل 1998.
- مجلّة الحياة الثقافيّة – العدد 98 السنة 23 – أكتوبر 1998.

منشورات Unknown on 3:40 ص. Filed under . You can follow any responses to this entry through the RSS 2.0

0 التعليقات حول موضوع �لجسد في القصّة القصيرة التونسيّة بين الالتزام والغواية بقلم : محمد عيسى المؤدب�

أكتب تعليقك على الموضوع

المشاركات الشائعة

لإرسال أي موضوع أو نص أو طرح أو مقالة أو شعرا فارسلوه للايميل الظاهر وبعدها يتم وضع الموضوع على المدونة gt.sebaalale@yahoo.com صبا العلي
صبا العلي

2010 BlogNews Magazine. All Rights Reserved. - Designed by SimplexDesign